فوضى العالم وعالم الفوضى-د. عبد الكريم برشيد
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
 أنا الموقع أعلاه

فوضى العالم وعالم الفوضى

  د.عبد الكريم برشيد    

العالم فوضى إذن، وأصبحت الكلمات تخون معانيها، وأضحت الأسماء تتبرأ منها مسمياتها، وأصبح الخفي في الأشياء أكثر خطورة من المعلن عنه.  
إنني أكتب دائما، وأتكلم أحيانا، ولا أصمت إلا إذا كان الصمت أبلغ من الكلام، أو كان صمتي معناه الكلام الداخلي، أو كان حوارا هامسا مع الذات ومع النفس ومع الله، أو كان هروبا من ثرثرة بلا معنى، أو كان استغراقا في التفكير الصامت، مما قد يدل، دلالة واضحة، على أن بعض هذا الصمت، وفي كثير من الحالات، قد يكون امتلاء وليس فراغا أو خواء، وقد يكون لغة أخرى مغايرة، لغة أفصح من كل اللغات الفصيحة، وأكثر حياة من كل اللغات الحية .
أما عندما أكتب، فإنني لا أكتب إلا بحروف من أبجدية النار والنور، أما تلك الحروف الأخرى، والتي هي حروف منطفئة ومظلمة وفاترة، فإنني لا أعرفها، ولا هي تعرفني، و الأصل في كل حرف حي، في هذه الأبجدية الحية، أن يكون جمرة مشتعلة، وأن يكون حالة متدفقة، وأن يكون صورة متحركة، وألا يكون صوتا أو رسما جامدا ومحنطا، وما أكثر الحروف المحنطة في الكتابات المحنطة، وما أتفه حروف الرياء في مجتمع النفاق والرياء، وما أحقر الحروف التي لا تنفع البلاد والعباد، والتي لا تكشف، ولا تكتشف، ولا تضيف، ولا تدين، ولا تتهم، ولا تنتقد، ولا تعري، ولا تشير، ولا تقدم ولا تؤخر، ولا تجدد، و لا تسمي الأجساد والأشياء والأفعال بأسمائها الحقيقية، ولا تكون في خدمة الحياة والأحياء، ولا تكون في صف المستضعفين في الأرض، ولا تمشي في نفس الاتجاه الذي تمشي فيه الحقيقة، ولا تسير في نفس النهج الذي يسير فيه التاريخ، وما أبلد حروف المداحين المتكسبين، وما أبشع عبارات المنافقين والنخاسين وتجار الحرف والعبارة، وما أفقر كل الذين يمارسون العهارة بالحرف والكلمة، والذين يعتدون على شرف الكلمة، ويخونون نبلها وقدسيتها، وينسبون أنفسهم إلى الشعر وما هم بشعراء، ويقحمون أسماءهم في لائحة الصحافيين وما هم بصحافيين، وقد يكونون مجرد مخبرين أو مجرد معلنين أو مجرد هتافين أو مجرد صباغين وممكيجين، وذلك  للوجوه وللجهات التي ضيعت الجمال الطبيعي، وخانها الكمال المعرفي والأخلاقي.     
إنني أرافق صديقي القلم هذا، وهو عندي أعز الأصدقاء وأوفاهم، وأشرب من حبر هذه الدواة وأرتوي، وأستحم بين أمواج هذا الحبر الذي ليس له ضفاف، وأجد أن هذا الحبر ليس له لون محدد، فهو بلون الحياة دائما، وهو بلون الطبيعة يوم مولد الطبيعة، وهو بلون الوجود الحق، وهو بلون الأرواح الشفافة، وهو بلون الأنفاس الحارة والملتهبة.
ولعل أخوف ما أخافه، في دنيا الكلمات والعبارات، هو أن أخون روح هذه الكلمات، وأن تهجرني العبارات الحقيقية في المواقف الحقيقية، وأن أجد نفسي أقول ما لا ينبغي أن يقال، وأضبط نفسي وأنا  أكتب بيدي في غفلة من قلبي وعقلي وروحي، وأن أكون أمام كل هذه الكتابات الخائنة مضطرا وليس مختارا، إما خوفا من جهة من الجهات، أو طمعا في وعودها السرابية والضبابية الكاذبة، ولهذا فإنني أردد دائما أمام نفسي مقولة الشيخ أبي حيان التوحيدي:
( كل مضطر ليس محمودا، بل المحمود ما أمكن فيه الاختيار)
العالم فوضى إذن، ووطنا عضو كامل العضوية، وذلك في النادي الدولي للفوضى الوحشية والبدائية، وهذا بالتأكيد، من حسنات سياستنا الموقرة، ومن اجتهادات نخبتنا الوصولية والانتهازية والذيلية، والتي هي اليوم نخبة واقعية جدا جدا .. واقعية أو واقحية لا يهم . 
هناك كلمات كثيرة خفيفة على اللسان، ولكنها ثقيلة جدا في الميزان .. ميزان الحق والحقيقة، وهذه الكلمات هي التي مازلت أبحث عنها، أو مازالت تبحث عني، وقد أكون لقيتها يوما ونسيت، وقد تكون جزء من لغتي ومن كتاباتي ولكنني لا أعرف ذلك.
وإنني، في تعاملي مع مجتمع الكلمات، أخاف أن يرضى عني بعض الناس، وترضى عني بعض الجهات، وأن أجد نفسي ـ من حيث أدري أو لا أدري ـ أغضب الله، وأغضب الحق والحقيقة، وما فائدة أن تكتب كتابات ألامس فيها  صورة الواقع الخارجية، وألا تقبض فيها  على روح هذا الواقع الحي، وألا أغوص عميقا إلى جوهره الصلب، ومن المؤكد دائما، أن الصورة التي تخضع لرتوشات التجميل والتزيين، تكون بالضرورة أحلى وأجمل، وذلك في العين الحسية طبعا، ومن المؤكد أيضا، أن أصل هذه الصورة، في طبيعتها النقية والعذرية والشفافة، هي بالضرورة أصدق، ولقد صدق من قال ( كل خير حسن، وليس كل حسن خيرا) فما أكثر الجمال الكاذب إذن، وما أكثر الأصباغ في هذه الصور التي تغزونا بألوانها وأضوائها وظلالها، وما أكثر الأقنعة التي تخفي الملامح الحقيقية لبعض الوجوه، وما أكثر الأزياء في هذا الكرنفال الوجودي والاجتماعي والسياسي الكبير والخطير.
يهمني أن أعرف الشيء، وأعرف مضاعفه وضده، وبضدها تعرف طبيعة كل الأجساد وكل الأسماء وكل الأشياء، ويهمني أن أرى الأبيض في الأسود، وأن أرى الأبيض في الأسود، وبغير هذا، أصاب بالعمى الألوان، ولا أعود أميز بين هذا وذاك، ولا بين هذه وتلك، وما أكثر الذين يكتفون بأن تكون لهم عين واحدة، وألا يروا في هذا الوجود، وفي هذه الطبيعة، وفي هذا الواقع، وفي هذا التاريخ، إلا لونا واحدا موحدا، ويقنعون أن يعيشوا بفكرة واحدة، لا شريك لها، وبرأي واحد لا ثاني له، وبحثا عن تلك الرؤية المتعددة والمركبة، كتبت كل ذلك الذي كتبت، وقلت كل ذلك الذي قلت، وإخلاصا لروح التعدد في الوجود، أسست فلسفتي الاحتفالية في هذا الوجود.



 
  د. عبد الكريم برشيد (2012-12-05)
Partager

تعليقات:
ابراهيم /المغرب 2013-02-04
هذا كلام لا يقوله إلا من كان مثلك سيدي. في ازمنة البلاهة الفكرية والضحالة والقبح، يظهر الجميل أشد جمالا لمن لم يفقد حاسة الفهم والنظر. والكلام النابع من ابتغاء الحقيقة وصفاء النية يكون دوما جميلا. استمتعت فعلا بقراءة مقالك: فيه وجع صوفي وحزن كثيف، لكن الحقيقة تكون دوما موجعة ومحزنة، لانها تعري الواقع من اصباغه، وتجرده من تزاويقه، فيبدو في كامل قبحه. التاريخ يشهد لكل من قال ولكل من كتب، وحتى لكل من صمت. والله يغضب إما لك أو عليك. وأحرى بالإنسان أن يقول كلاما يرضي به ضميره وربه. شكرا على ما كتبت، وشكرا لك لأن ما تكتبه يمنحنا الإحساس بوجود مثقفين مغاربة حقيقيين ما يزالون على العهد في هذا البلد.
لست مَدَّاحا لكني أشهد بالحق لكل من كان على الحق، شهادةأمام نفسي وأمام الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
البريد الإلكتروني : brahim_2012@hotmil.com

انس معاوية /السودان 2012-12-11
حديث ذو شجون ينثني له شعر الجلد
البريد الإلكتروني : anasanas2012@hotmail.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

فوضى العالم وعالم الفوضى-د. عبد الكريم برشيد

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia